رمضان الذي طالما ما كان شهر الانتصارات، وشهد أثمن وأنفس أيام تلك الأمة، مضت عدة عقود ولم يزر أمتنا بعد، فمنذ حرب العاشر من رمضان 1973، يوم أن عبرت جيوشنا قناة السويس، وهدمت خط بارليف المنيع، وحطمت أسطورة الجيش الذي لايقهر، لم يزر أمتنا منذ ذلك الحين.
معارك كبرى خاضتها الجيوش العربية في شهر رمضان، فمنذ صدر الإسلام وغزوة بدر وحتى العاشر من رمضان 1973، كانت الجيوش العربية والإسلامية تسطر انتصارات عريقة كتبت بأحرف من نور في تاريخنا القديم والحديث.
مصر كانت محور العديد من تلك المعارك الرمضانية، ولعل أهمها معركة عين جالوت، فما أشبه الليلة بالبارحة، سقطت معظم الدول العربية في أيدي المغول، وهدموا أهم حضارة عربية في التاريخ، وهي بغداد، استباحو دم أهلها، وحرقوا مكتباتها وهدموا قصورها، وعاثوا فيها قتلا وفسادا وإفسادا وأمعنوا في ذلك، وسبقتهم أخبارهم إلى سائر البلدان العربية.
إلا أن مصر كانت ولازالت حصن الأمة الحصين، وجيشها يبذل الغالي والنفيس فداء للعروبة والوطن، بدأ السلطان قطز قائد الجيوش المصرية، يوطد أركان دولته ويثبت دعائم حكمه، فعين من يثق فيهم في مناصب الدولة الكبيرة، وقبض على أنصار السلطان السابق، وأخذ يستعد للجهاد وملاقاة المغول، وسمح برجوع بعض أمراء المماليك من خصومه وكانوا بالشام، وعلى رأسهم بيبرس البندقداري فرحب به، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها، وأغرى قوات الناصر يوسف الأيوبي ـ الذي فر من دمشق وطلب نجدة المماليك بمصر ـ بالانضمام إلى جيشه وكانت بالقرب من غزة، فاستجابت لدعوته.
وفي تلك الأثناء وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة تحمل خطابا تقطر كبرا وغطرسة، ويمتلئ بالتهديد والوعيد، ومما جاء فيه: “.. إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم.. فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا.. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق…”.
وأمام هذا الخطر الداهم عقد السلطان قطز مجلسًا من كبار الأمراء، واستقر الرأي على مقابلة وعيد المغول بالاستعداد للحرب، وعزز ذلك بقتل رسل المغول؛ ردًا على تهديد هولاكو وكان هذا التصرف إعلانًا للحرب وإصرارًا على الجهاد، وفي الوقت نفسه بدأ قطز يعمل على حشد الجيوش وجمع الأموال اللازمة للإنفاق على الاستعدادات والتجهيزات العسكرية، وقبل أن يفرض ضرائب جديدة على الأهالي جمع ما عنده وعند أمرائه من الحلي والجواهر، واستعان بها في تجهيز الجيش، استجابة لفتوى الشيخ “العز بن عبد السلام” أقوى علماء عصره.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل لقي صعوبة في إقناع كثير من الأمراء بالخروج معه لقتال التتار، فأخذ يستثير نخوتهم ويستنهض شجاعتهم بقوله: “يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه…”؛ فأثرت هذه الكلمة في نفوسهم، وقوت من روحهم، فخرجوا معه وتعاهدوا على القتال.
وفي (رمضان 658هـ أغسطس 1260م) خرج قطز من مصر على رأس الجيوش المصرية ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وترك نائبا عنه في مصر هو الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، وأمر الأمير بيبرس البندقداري أن يتقدم بطليعة من الجنود ليكشف أخبار المغول، فسار حتى لقي طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثر في نفوس جنوده، وأزالت الهيبة من نفوسهم، ثم تقدم السلطان قطز بجيوشه إلى غزة، فأقام بها يومًا واحدًا، ثم رحل عن طريق الساحل إلى عكا، وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض واكتفى منهم بالوقوف على الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول، ثم وافى قطز الأمير بيبرس عند عين جالوت بين بيسان ونابلس.
وكان الجيش المغولي يقوده (كتبغا) بعد أن غادر هولاكو الشام إلى بلاده للاشتراك في اختيار خاقان جديد للمغول، وجمع القائد الجديد قواته التي كانت قد تفرقت ببلاد الشام في جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت.
اقتضت خطة السلطان قطز أن يخفي قواته الرئيسية في التلال والأحراش القريبة من عين جالوت، وألا يظهر للعدو المتربص سوى المقدمة التي كان يقودها الأمير بيبرس، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة (25 من رمضان 658هـ 3 من سبتمبر 1260م) حتى اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل على طلائع الجيوش المصرية؛ حتى تحقق نصرًا خاطفًا، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز ثبت كالجبال، وصرخ بأعلى صوته: “واإسلاماه!”، فعمت صرخته أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا على الجيش المغولي الذي فوجئ بهذا الثبات والصبر في القتال وهو الذي اعتاد على النصر الخاطف، فانهارت عزائمه وارتد مذعورا لا يكاد يصدق ما يجري في ميدان القتال، وفروا هاربين إلى التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كيتوبوقا يسقط صريعًا في أرض المعركة.
وتتبع جنود الجيش المصري الفلول الهاربة من جيش المغول التي تجمعت في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها في لقاء حاسم، واشتدت وطأة القتال، وتأرجح النصر، وعاد السلطان قطز يصيح صيحة عظيمة سمعها معظم جيشه وهو يقول: “واإسلاماه!” ثلاث مرات ويضرع إلى الله قائلا: “… يا ألله!! انصر عبدك قطز”.. وما هي إلا ساعة حتى مالت كفة النصر إلى المسلمين، وانتهى الأمر بهزيمة مدوية للمغول لأول مرة منذ جنكيز خان.. ثم نزل السلطان عن جواده، ومرغ وجهه على أرض المعركة وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله.
كانت معركة عين جالوت واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجه بمثله من قبل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذ أن يدفعه.
وكان هذا النصر إيذانًا بخلاص الشام من أيدي المغول؛ إذ أسرع ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق على رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 هـ)، وبدأ في إعادة الأمن إلى نصابه في جميع المدن الشامية، وترتيب أحوالها، وتعيين ولاة لها.
وهنا ومن هذه الومضة المضيئة في تاريخ الجيش العربي المصري، لازالت أمتنا تنتظر أن يزورها رمضان، الشهر الذي تتخلص فيه من احتلال فلسطين، والقضاء على الإرهاب، وأن تعود مصر بجيشها الباسل، وشعبها الجبار، إلى صدارة العروبة اقتصادا وفنا وعلما وقوة وثقافة.