كتبت – نيرة إبراهيم
في قلب ميدان محطة مصر، وسط ضجيج المدينة وحركة المارة، يتوقف كثيرون أمام محل جزارة لا يشبه غيره. ليس فقط بسبب الزحام الذي لا يهدأ، بل لأن من تقف خلف الميزان وتحمل السكين هي امرأة أعادت تعريف المهنة: إنها رشا، أو كما يناديها الجميع بمحبة واحترام “أم أدهم”، أشهر جزارة في الإسكندرية.
من تلميذة في بيت الجزارين إلى قائدة محل يعج بالزبائن
ولدت رشا في كنف عائلة يعمل أغلب أفرادها في الجزارة. لم تكن طفولتها كأقرانها، فقد قضت ساعاتها الأولى بجوار والدها، تتأمل كيف يمسك السكين، ويسمي قطع اللحم، ويعامل الزبائن بروح طيبة. تقول بابتسامة فيها حنين: “أبي كان ملهمي الأول، كنت صغيرة وأقف بجواره أتعلم وألاحظ. لم تكن الجزارة مهنة، بل عشق تربيت عليه.”
هذا الشغف الذي نما معها لم يكن مجرد حلم صامت. في عام 2014، قررت رشا أن تبدأ رحلتها المهنية الحقيقية، فالتحقت بمنفذ الجمعية التعاونية للثروة الحيوانية، وهناك بدأت أولى خطواتها العملية، متحدية كل ما يفرضه المجتمع من قوالب جاهزة حول “وظائف الرجال والنساء”.
السكين في يد امرأة: مشهد غير مألوف تحول إلى مصدر إلهام
لم يكن من السهل أن تفرض امرأة وجودها في مهنة لطالما اعتبرت “للرجال فقط”، لكن رشا لم تواجه رفضًا، بل مفاجأة إيجابية. تقول بثقة: “الناس كانوا في غاية الدعم. الإعلام نفسه اهتم بي، واتعملت معايا لقاءات في الأخبار والأهرام. السر في حب الشغل.”
واليوم، أصبح محل رشا في ميدان محطة مصر أحد أشهر محال الجزارة في المحافظة. الزبائن، رجالاً ونساءً، يطلبونها بالاسم. بل إن طوابير طويلة تقف أمام المحل، ليس فقط في عيد الأضحى، بل طوال العام، طلبًا للحومها الطازجة، وخدمة تعاملها الإنساني الراقي.
قائدة وسط فريق من الرجال.. وتحمل سكينها بثبات
المشهد داخل المحل يثير الإعجاب. وسط أكثر من 10 عمال وجزارين، تقف “أم أدهم” وحدها تدير العمل بحزم واحترافية. تذبح، وتقطع، وتراجع الخزينة، وتتعامل مع الزبائن، وتنسق العمل في أكثر فترات السنة ازدحامًا.
“في العيد بنشتغل من الفجر للفجر تقريبًا، الموسم صعب لكنه فرصة نُظهر فيها مهاراتنا”، تقول وهي تمسح جبينها بابتسامة رضا.
في مثل هذه المواسم، تستعين بعدد إضافي من الجزارين لتلبية الطلب المتزايد، لكن يبقى حضورها الشخصي هو ما يمنح الزبائن الثقة.
علاقات إنسانية صنعت النجاح
واحدة من أبرز سمات رشا هي قدرتها على بناء علاقات إنسانية دافئة مع الزبائن. تقول بفخر: “الناس بتحب اللسان الحلو، وأنا أتعامل مع الزبون كأنه ضيف عندي. ده سر رجوعهم ليّ.”
النساء على وجه الخصوص يشعرن براحة معها، حتى أن بعضهن يمزحن قائلات: “يلا حضّرنا السكاكين!”. العلاقة بين رشا وزبائنها تجاوزت البيع والشراء، لتصبح علاقة احترام متبادل ومودة.
وراء الجزارّة.. أم حنونة ومُعيلة قوية
بعيدًا عن صخب المحل والسكين، رشا أم لأربعة أبناء. ابنتها في الثانوية العامة، وابنها الأكبر طالب بالأكاديمية البحرية، بينما لا يزال الصغار في مراحل التعليم الأولى. رغم ضغط العمل، لا تتخلى عن دورها الأسري.
“أولادي فخورين بيا، ودايمًا بقولهم إن شغلي شريف وتعبه بيكبرهم. وهما فاهمين ده كويس.”
في مواجهة التحديات.. رشا انتصرت
لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، بل كان مليئًا بالدهشة والتساؤلات والنظرات المتوجسة. لكن مع الوقت، تحوّلت كل تلك التساؤلات إلى احترام. التجار، الجهات الرسمية، وحتى الجزارون المحيطون بها صاروا يثقون بها ويتعاملون معها كأحد أعمدة المهنة.
تقول رشا بنبرة انتصار: “أثبت نفسي بالشغل مش بالكلام، الناس لما شافت إني بعرف أذبح وأقطع وأدير المحل بثقة، بقوا يحترموني أكتر.”
“السكين مش بس حديد، دا رمز لقوة الست”
رشا ليست مجرد جزارة، بل نموذج حيّ لقوة المرأة المصرية، ولإمكانية كسر الصور النمطية بقوة العمل والشغف. قصتها لا تتوقف عند اللحم والسكين، بل تمتد إلى الإلهام، إلى أن تقول كل امرأة: “أقدر أكون ما أريد.. حتى لو ما حدش عمله قبلي.”