<<تصميم روسي وحلم يوناني وتمويل شعبي.. الحكاية الكاملة لبناء الإستاد
<< من الملك فؤاد إلى أمم إفريقيا 2019.. مائة عام من الرياضة والسياسة والشغف
كتبت: رنيم العشري – هدير قطب
وسط ضجيج الموانئ وصخب شواطئ المتوسط، يقف ستاد الإسكندرية الرياضي الدولي شامخًا كأحد أبرز معالم المدينة، ليس فقط كمنشأة رياضية، بل كوثيقة حية تسرد فصولًا من التاريخ الوطني، والهوية السكندرية، وذاكرة الرياضة في مصر والقارة السمراء. فهو لا يختزن فقط أهدافًا وألقابًا، بل يحتفظ بجدرانه وأسواره بقصص ملوك وأمراء، وجماهير تهتف، ومدن بأكملها توحدت حول حلم أول ملعب أوليمبي في الشرق الأوسط وإفريقيا.
هذا الإستاد ليس مجرد ملعب.. إنه أقدم ستاد أوليمبي في المنطقة، ومَعلم أثري متفرد، بُني على أنقاض سور إسلامي قديم، واستُلهم من الطراز الروماني الإمبراطوري، وظل منذ افتتاحه في عام 1929 شاهدًا على تحولات سياسية ورياضية واجتماعية، من الملكية إلى الجمهورية، ومن الشمعدانات إلى الكشافات.
الحلم الذي وُلد من قلب الإسكندرية
تعود قصة ستاد إلى أوائل القرن العشرين، حين طرح رجل يُدعى أنجلو بولاناكي – يوناني الأصل، مصري المولد – فكرة طموحة ببناء ستاد أوليمبي في الإسكندرية لاستضافة دورة الألعاب الأوليمبية عام 1916. لكن الحرب العالمية الأولى وأهوالها أوقفت المشروع.
لم يتراجع بولاناكي. عاد ليعرض الفكرة على بلدية الإسكندرية التي وافقت، رغم التحديات المالية الضخمة. وتضافرت جهود الملك فؤاد الأول، والأمير عمر طوسون، وكبار رجال الدولة، بل وشارك الأهالي في تمويل المشروع عبر التبرعات واليانصيب، حتى جُمعت 132 ألف جنيه – مبلغ هائل في ذلك الزمن – ليبدأ تشييد الحلم.

تصميم يُحاكي المجد الروماني
أُسندت مهمة التصميم للمعماري الروسي فلاديمير نيكوسوف، الذي مزج في رؤيته بين الطراز الإمبراطوري الروماني وأقواس النصر اليونانية، مضيفًا لمسات محلية بحفاظه على أجزاء من سور الإسكندرية الإسلامي القديم داخل بنيان الإستاد، خاصة في الجهة الشمالية التي تطل على المدرجات.
افتتاح ملكي.. ومباراة للتاريخ
في 17 نوفمبر عام 1929، شهدت الإسكندرية حدثًا استثنائيًا: افتتاح الإستاد رسميًا في احتفالية مهيبة بحضور الملك فؤاد الأول، الذي أطلق عليه اسم “ميدان الرياضة البدنية”، ثم “ملعب فؤاد الأول”. جمعت المباراة الافتتاحية فريقي الاتحاد السكندري والقاهرة، وفاز بها الاتحاد بهدف دون رد، وسط هتافات جماهيرية ستظل محفورة في ذاكرة المدينة.
بعد ثورة 1952، تغير اسم الإستاد إلى “ملعب البلدية”، قبل أن يُعتمد اسمه الحالي: إستاد الإسكندرية، الذي بات رمزا رياضيًا وتاريخيًا وثقافيًا.
محطات التطوير: من البحر المتوسط إلى أمم إفريقيا
لم يتوقف الإستاد عن التطور منذ ولادته. أبرز محطاته كانت عام 1951 استعدادًا لاستضافة دورة ألعاب البحر المتوسط الأولى، حيث شُيدت الصالة المغطاة الشهيرة بـ”صالة الرعب”، وحمامان للسباحة.
ثم جاء عام 1996 لتجديد الملعب قبل بطولة مونديال الناشئين، تبعها تطويرات أكبر في 2006 لاستضافة بعض مباريات كأس الأمم الإفريقية، وعام 2017 لاستقبال البطولة العربية للأندية، وصولًا إلى التطوير الشامل عام 2019 مع استضافة مباريات كأس الأمم الإفريقية، والذي شمل: تحديث منظومات الدفاع المدني والبوابات الإلكترونية والإذاعة الداخلية والكاميرات، وتطوير الإضاءة وقاعة المؤتمرات والمركز الإعلامي وكبائن المعلقين، ورفع كفاءة أرضية الملعب والشاشات والسور الخارجي والصالات ودورات المياه، وإنشاء منظومة دخول للجماهير وفق المعايير الدولية
ذاكرة حيّة ومزار مفتوح
لا يقتصر دور الإستاد على احتضان مباريات الدوري الممتاز وكأس مصر ومنافسات أندية الاتحاد السكندري وسموحة وفاركو، بل أصبح كذلك مزارًا سياحيًا وتاريخيًا، تفتحه الإدارة أمام الزائرين لاكتشاف هذا الصرح الذي تتقاطع فيه الرياضة مع العمارة، والتاريخ مع الحاضر.
لقد استضاف الإستاد شخصيات مثل شاه إيران محمد رضا بهلوي، وكان أول ملعب عربي تُركب فيه كشافات إضاءة، وما زال، رغم تقليص سعته إلى 13 ألف متفرج بعد التطوير، ينبض بالحياة كلما دوّى الهتاف في جنباته.
إستاد الإسكندرية.. صرحٌ لا يشيخ
من مقاعده العتيقة إلى جدرانه الحجرية، ومن طيف بولاناكي إلى روح الملك فؤاد، ومن كأس الافتتاح إلى بطولات الأمم، يظل إستاد الإسكندرية واحدًا من أندر الملاعب في العالم التي تمزج بين المجد الرياضي، والحضور الأثري، والانتماء الشعبي.
إنه ليس فقط أقدم إستاد في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط، بل أيضًا أصدقها تعبيرًا عن كيف يمكن للحلم أن يتحول إلى تاريخ حي، ترويه جدران ومقاعد وعشب أخضر عاش عليه جيلٌ بعد جيل.