<<| حنان.. الصديقة التي فتحت لهالة محفوظ بوابة لغة الإشارة والإنسانية
<<| “حديث الأصابع”.. برنامج خُطط له لأسابيع فاستمر لعقود
<<| الإعلام ليس وظيفة بل نافذة لضمير المجتمع
<<| نيابة عن الصم: نريد فرصة لا وصاية.. ومكانًا لا مجرد تمثيل
<<| رسالتي للمرأة المصرية انجحي لكن لا تنسي من هم وطنك الصغير
حوار: رنيم العشري
في مساحة نادرًا ما يسلّط عليها الإعلام العربي الضوء، اختارت أن تكون الجسر الممتد بين عالم الصمت وعالم الصوت، أن تنقل المشاعر بلغة الأعين، وأن توصل الرسائل بحركة الأيدي.
إنها الإعلامية الدكتورة هالة محفوظ، كبير مقدمي البرامج في تلفزيون الإسكندرية، والخبير الإعلامي في لغة الإشارة بالتلفزيون المصري، صاحبة تجربة إنسانية ومهنية رائدة، تحوّلت من خلالها إلى رمز للتمكين، وأيقونة في المشهد الإعلامي المصري.
في هذا الحوار، تفتح لنا د. هالة محفوظ صفحات من سيرتها الذاتية، منذ الطفولة وحتى الشاشة، وتكشف عن قصص ومواقف صنعت منها صوتًا حقيقيًا للصم وضميرًا حيًا لقضيتهم.
● نعود بكِ إلى البدايات… من هي هالة محفوظ قبل الشاشة؟
بدأت علاقتي بلغة الإشارة في سن مبكرة، من خلال جارتي وصديقتي “حنان”، التي تكبرني بعامين، وفقدت السمع والنطق إثر إصابتها بالتهاب سحائي في سن الرضاعة.. كنت مشدوهة بحالتها، وأسأل نفسي: كيف تتواصل مع العالم؟ شدة تعلقي بها دفعتني لتقليد حركاتها، حتى أتقنت لغتها تدريجيًا، وأصبحت مترجمتها في كل موقف.
حنان كانت تعلّمني الأشغال اليدوية، وكنت بمثابة “عينها التي ترى بها”، كما كانت تقول. تعلمت لغة الإشارة بشكل فطري، رغم صعوبتها، فهي ليست إشارات فقط، بل تعبير وجه ومرونة يد ودقة في حركة الشفاه.. كنت كثيرًا ما أخفض صوت التلفاز لأتأمل الشاشة وأتساءل: ما الذي يصل للصم؟ وكانت الإجابة المؤلمة: لا شيء.. حينها وعدت حنان: “سأصبح أول مذيعة للصم في مصر، وسأقدّم برنامجًا لهم”. ومن هنا بدأت رحلتي.
● ماذا كان موقف الأسرة من قربكِ الشديد من حنان في الطفولة؟
علاقتي بحنان كانت تأخذ كثيرًا من وقتي، وهو ما أقلق والديَّ في البداية، خاصة أنني كنت أدرس في مدرسة فرنسية وكانوا حريصين على تفوقي الدراسي.. وقد استُدعيت مرة إلى الإدارة بسبب كثرة حركة يدي أثناء الحديث. لكن حين شرحت أنني أستخدم لغة الإشارة، تغيّر الموقف تمامًا. في صباح اليوم التالي، كرّمتني المدرسة أمام زملائي، تقديرًا لجهدي الإنساني ودعمي لصديقتي من ذوي الهمم.
● ومتى بدأ الحلم الإعلامي يأخذ طريقه نحو الواقع؟
أنا سكندرية الأصل، وكنت أتابع التلفزيون بشغف منذ طفولتي. ذات يوم، شاهدت إعلانًا عن افتتاح تلفزيون الإسكندرية، مع إمكانية التقديم لمن تتوافر فيهم الشروط.. شعرت أن الفرصة قد حانت لتحقيق حلمي في أن أكون مذيعة. حتى أن أصدقائي كانوا ينادونني بـ”المذيعة هالة محفوظ”، وكنت أوقّع الأوتوجرافات بهذا اللقب.. كنت أتمتع بمهارات متعددة: إتقان للغة العربية والإنجليزية والفرنسية، ولغة الإشارة، بالإضافة لخلفية فنية؛ فقد عزفت على البيانو الكلاسيكي في الكونسرفتوار، ودرست الفنون التشكيلية، وتخرجت في كلية التجارة.. الإعلام بالنسبة لي لم يكن وظيفة، بل رسالة، وكان لديّ الأدوات لتقديم شيء حقيقي ومؤثر.
● هل وقعتِ في مواقف محرجة بسبب الفروق في طبيعة التعامل مع الصم؟
بالفعل، في بداياتي كنت أرفع صوتي تلقائيًا أثناء تقديمي برنامج “حديث الأصابع”، رغم أنني أخاطب الصم.. وفي أحد الأيام، طلب رئيس القناة التحدث إليّ وقال بلطف: “اخفضي صوتك قليلًا”.. فشكرته، ثم عدت إليه في اليوم التالي بصحبة عدد من الصم لتحيته، وفوجئت به يرفع صوته أثناء الحديث معهم!.. ابتسمت وقلت له: “الآن فقط عرفت لماذا أرفع صوتي؟”، فضحك وقال: “الموقف أوضح لي ما لم تفعله الكلمات”.
● حدثينا عن برنامج “حديث الأصابع”.. كيف بدأ، وما أبرز تحدياته؟
بدأ البرنامج بخطة أولية من 13 حلقة فقط، لكنه استمر لأكثر من 20 عامًا بفضل تأثيره الكبير.. كنت المذيعة والمعدة والمترجمة في آنٍ واحد، تحت إشراف المخرج محمد الشرقاوي. وكان إعداد الحلقات مرهقًا للغاية، حيث كنت أنزل بنفسي للقاء النماذج المختلفة من عالم الصم.. من بين القصص الملهمة، شاب أصم يعمل ميكانيكيًا، يتميّز بدقة مذهلة لأنه يشعر بالذبذبات بدلًا من سماعها.. ترجمنا الأغاني، والمسرحيات، والمسلسلات، وفوازير رمضان، ليتمكّن الصم من “الاستماع” بأعينهم. الهدف كان دمجهم في المشهد الإعلامي والثقافي بكل تفاصيله.
● بعيدًا عن الإعلام… من هي هالة محفوظ الإنسانة؟
أنا أعشق الرسم، والموسيقى، والزراعة، والصيد.. صيد السمك بالصنارة هو متعتي الخاصة، حيث أجد فيه هدوءًا وراحة لا تُوصف.. والبحر والإسكندرية هما وطني الروحي الذي لا يمكنني الحياة دونهما.
● ما هي النصيحة الأهم التي لا تزال عالقة بذهنك؟
قال لي والدي – رحمه الله – ذات يوم: “الشجرة المثمرة هي التي تُرمى بالحجارة”.. كان يؤمن أن النجاح الحقيقي يُقابل بالتشكيك أو النقد أحيانًا هذه العبارة أستدعيها كلما واجهت تحديات أو محاولات إحباط.
● 12 ديسمبر 1991 تاريخ غير تقليدي في حياتك، ما حكايته؟
هو تاريخ خطوبتي على زوجي الإعلامي أحمد وائل، وكان أول إعلان خطوبة يتم على شاشة التلفزيون.. أحمد كان لاعب كرة يد ومذيعًا بالإذاعة الرياضية، تعارفنا في التلفزيون، وقرّرنا أن نعلن خطوبتنا في الذكرى السنوية الأولى لافتتاح تلفزيون الإسكندرية.. خلال الحفل، قُدمت تورتة ضخمة من ثلاث طبقات، وفوجئ الجميع بإعلان الخطوبة رسميًا.
● وهل ورثت ابنتاكِ شغفكما بالرياضة؟
نعم، لديّ ابنتان، لوجينا ونوران، وكلاهما مارستا كرة اليد.. لوجينا لعبت في فريق نادي سبورتنج، واستكملت مشوارها الرياضي في ألمانيا.. أما نوران، فهي لاعبة في الفريق الأول بالنادي، ومثلت مصر في بطولة العالم، وهي عاشقة لهذه اللعبة.
● حدثينا عن مبادرتك “هالة حب”، وماذا تمثل لكِ؟
مستوحاة من رسالتي للدكتوراه، “هالة حب” هي أول قصة دامجة في مصر، كتبتها بلغة برايل، ولغة الإشارة، واللغة العربية.. سردت فيها قصة حياتي مع حنان، واستخدمت خيوطًا ذات ملمس مختلف لتساعد الأطفال ذوي البصيرة على تصور الشخصيات.. قُرئت القصة من قبل طفل عادي، وآخر من ذوي الإعاقة البصرية، وثالث من ذوي الإعاقة السمعية.. هدفي أن تُعمم هذه الفكرة، وتُؤسس مكتبة دامجة تحتوي كتبًا تخاطب كل الفئات باحترام واحتراف.
● ماذا تعني لكِ مصر؟
مصر هي كل شيء.. رفضت عقودًا كثيرة للعمل في الخارج، وفضّلت البقاء. لا شيء يُضاهي أن تقدمي رسالتك من خلال شاشة وطنك، وأن تكون رسالتك صدى لصوت بلدك.
● رسالة توجهينها إلى ابنتيكِ؟
أقول لهما: النجاح ليس بالمال فقط، بل بأن تجدي نفسك وتحققي ذاتك.. قد لم أحقق الثراء المادي، لكنني حققت ما هو أعظم: حب الناس، والصدق في الرسالة، والإيمان بالقضية.
● وأخيرًا… ما رسالتك للمرأة المصرية؟
أقول لها: أسرتك هي أغلى ما تملكين، الله سيحاسبك عنهم أولًا.. اعملي وابدعي وحققي أحلامكِ، لكن لا تنسي من هم أساس وجودك.
● إن كنتِ اليوم “صوت الصم”، فما الذي تطالبين به نيابة عنهم؟
أطالب بـتمكين حقيقي للصم، لا تمثيل شكلي، يجب أن يتولوا زمام أمورهم، وأن يحصلوا على فرص حقيقية وعادلة، بعيدًا عن وصاية المترجم أو المتحدث.. الصم قادرون على القيادة، ولكنهم ينتظرون فقط من يؤمن بهم… ويفتح لهم الباب.