<< جلد الضاني يُستخدم في الجواكيت والملابس.. وجلد الماعز يُناسب صناعة الأحذية والحقائب.. والجلد البقري يستخدم في الأثاث والسيارات والأحزمة الرجالية
كتبت – أميرة سلامة
بمجرد أن تخطو قدمك إلى شارع شاهين – أرض المدابغ – المكس غرب الإسكندرية، تدخل إلى عالم آخر تمامًا، هنا لا شيء يشبه الحياة الروتينية، الشوارع ضيقة، الهواء مشبع برائحة الجلد المملح، الأصوات متداخلة بين صرير الماكينات ونداءات العمال، والعيون تتبعك بتساؤل هادئ: هل أنت هنا للزيارة أم للعمل؟
هكذا بدأت جولتنا داخل مدبغة “شاهين النسر”، واحدة من أعرق المدابغ في المدينة، بل في مصر كلها، والتي يمتد تاريخها لأكثر من مائة عام، ويمتلكها الشقيقان عبدالحميد ونبيل شاهين. مصنع كبير ينبض بالحياة، تدب فيه الحركة من أول النهار حتى نهاية اليوم. العشرات من العمال والموظفين يتحركون كخلية نحل، كلٌ في موقعه، وكلٌ يؤدي دورًا محددًا بدقة وخبرة.
المحطة الأولى: استقبال الجلود الخام
في بداية الجولة، استقبلنا رجب الجلفي، أحد أقدم العاملين بالمصنع، والذي اصطحبنا إلى ساحة استقبال الجلود.
“هنا بتبدأ الحكاية” – هكذا بدأ حديثه، وهو يشير إلى عربات الكارو المصطفة، محمّلة بجلود الخروف والماعز والجاموس التي يجلبها الفلاحون من القرى.
الجلود تدخل أولًا براميل الغسيل الكبيرة، وتُعالج بمادتَي “الأجزا” و”الجير” لإزالة الشعر. اليوم التالي يشهد مرحلة إزالة الدهون، ويُضاف إليها “ملح سلفات” و”أوروبون” – وهي مادة تشبه الجِل – قبل أن تُعالج بالأحماض مثل “الهيرويك” و”الكبريتيك”.
هنا تبدأ أسرار الحرفة القديمة في الظهور. “كل مادة وليها وقتها، والجلد لازم يتعامل معاه بحساب.. غلطة صغيرة تبوّظ شغل يومين”، يوضح رجب وهو يُشير إلى برميل الكروم، المرحلة الأخيرة من هذا الطابق، حيث تُضاف مادة الكروم كمادة حافظة، تمهيدًا لدخول الجلد مرحلة الصباغة.
الطابق الثاني: صباغة، تجفيف، وشد
نصعد مع رجب إلى الطابق الثاني، حيث تتعانق الألوان وروائح الصبغة مع ضجيج الماكينات.
الجلود التي صُبغت في الطابق الأرضي تُعلّق هنا على سير ضخم لتجف، ثم تدخل إلى براميل التسخين لتصبح أكثر ليونة، قبل أن تنتقل إلى ماكينة “الشد” التي تُفرد الجلد باستخدام كلبسات حرارية.
كل شيء هنا يتحرك بدقة. بعدها تأتي ماكينة “السنفرة” التي تزيل الطبقات الزائدة من الوبر والدهون، وتُمهّد الجلد لمرحلة الرش
رشة اللون الأخيرة.. وأسرار الخامات
ندخل إلى غرفة الرش، حيث يستقبلنا عم محمد، المشرف على ماكينة الرش والفرن، “هنا بنحدد مصير الجلد”، يقولها بفخر وهو يُمسك بإحدى القطع، الجلود تُرش بالألوان المطلوبة، ثم تدخل الفرن لتجف، لتخرج بعد دقائق ناعمة، لامعة، بلون موحد.
عم محمد يكشف لنا الفروق بين أنواع الجلود: جلد الضاني (الخروف): ناعم تمامًا، خالٍ من المسامات، يُستخدم في الجواكيت والملابس، وجلد الماعز: أكثر خشونة، يُناسب صناعة الأحذية والحقائب، والجلد اللباني (بتلو): مأخوذ من العجول حديثة الولادة، يتميز بنعومته، والجلد البقري: يستخدم في الأثاث والسيارات والأحزمة الرجالية.
ويضيف أن الجلد يُصنف إلى درجات حسب حالته، موضحًا أن “درجة الرفض” تأتي بسبب عيوب في الجلد ناتجة عن أمراض أو جروح من القص الخاطئ، لكنها تبقى مطلوبة لاستخدامها في الأجزاء غير الظاهرة من المنتجات.
اللمسة الأخيرة: كبس وطباعة
تصل جولتنا إلى المرحلة الأخيرة، الجلود بعد رشّها وتجفيفها تدخل إلى ماكينة الكبس، حيث تُضبط درجة الحرارة والضغط حسب نوع الجلد وسمكه، ثم تُمرر على ماكينة قياس رقمية حديثة، مزوّدة بشاشة ديجيتال، تُحدد بدقة مساحة الجلد، وتطبع ورقة بيانات تُلصق مع كل طلبية.
الميزة الأهم؟ يمكن طباعة اسم المصنع أو العميل مباشرة على الجلد – لمسة احترافية تحاكي أعلى معايير التصنيع العالمية.
صناعة الجلود لم تكن يومًا مجرد منتج، بل هي ركن أصيل من الاقتصاد المصري، تُلبي احتياجات السوق المحلي وتخترق الأسواق العالمية، وتُعيد التأكيد في كل مرة أن شعار “شجّع المنتج المصري” ليس مجرد حملة، بل واجب وطني.